«نزار قباني شاعر لا تشمله رحمة الله، فلا يستحق أن يصلى على جنازته ولهذا أخرجت جثمانه من المسجد المركزي بلندن دون أن يصلى عليه»، بمعنى هذه العبارات فاجأني القارئ محمد جمال من ألمانيا يتهمني بتلميح أشبه بالتصريح في تعليق على مقالي الاثنين الماضي عن المطرب محمد عبده بأنني ـ وإن كنت قد وسعت ضيقا مع هذا الفنان ـ فإنني قد ضيقت واسعا مع فنان الشعر نزار قباني. ويقول القارئ بأنني أردت أن أملك رحمة ربي فرفضت حين كنت مديرا للمركز الإسلامي في عام 1998 أن يصلى على جنازته!
أنا لا ألوم هذا القارئ ولا ألوفا غيره يعتلج في نفوسهم نفس العتب، على الرغم من مضي أكثر من عشر سنوات على وفاة هذا الشاعر الذي أشغل الناس حيا وميتا. فقد باء بإثم هذه الكذبة الكبرى صحفي نشر تقريره في الصفحة الأولى فشرق الخبر وغرب، وذكر في بهتانه بأن عددا من المتشددين لم ينقصهم إلا البلطات والسكاكين، قد أحدثوا هرجا ومرجا واعترضوا على الصلاة على جنازة نزار قباني وكادوا يقذفون بها خارج المركز الإسلامي، ويؤكد الخبر أنني قد فاوضت هؤلاء المتشددين وخرجت معهم بحل وسطي يقضي بأن يصلى على روحه ولا يصلى على جسده!!والله يشهد وخمسة آلاف مصل ومعهم عشرات من السفراء والدبلوماسيين العرب يتقدمهم السفير المتيم بنزار قباني الدكتور غازي القصيبي، سفير السعودية في لندن آنذاك، بأنه لم يحدث هرج ولا مرج، وأن الجنازة قد صلى عليها المسلمون، وأنني لم أفاوض في هذا الشأن لا متشددا ولا متفلتا. وما برحت أتذكر أن الجنازة قد أحضرت في ضحى يوم الجمعة ووضعت في الجانب الأيمن من المسجد وادعة ساكنة هادئة هدوء الليل البهيم في عمق الصحراء حتى صلى عليها المسلمون. وكانت الأمور ستجري طبيعية 100% لولا أن شابا قام في الناس متحدثا بعد الفراغ من صلاة الجمعة وقبل صلاة الجنازة وقال بلغة هادئة بأن هذه الجنازة للشاعر نزار قباني الذي ينسب إليه في شعره سخرية بالدين وشعائره، ولهذا لا يجوز أن يصلى عليه، فاعترضه مصلون آخرون. فتدخل الإمام بسرعة وهو في محرابه وفض النقاش بحكمة لافتة، وقال: إننا سنصلي على الجنازة فمن أحب أن يصلي معنا فأهلا به ومن لا يرغب في الصلاة عليه فلينصرف مشكورا. فصلى عليه الأغلبية الساحقة، فكتبت حينها توضيحا لهذا اللبس نشر في تعليقات القراء. فكان هذا التوضيح المنزوي عن الأنظار أمام خبر نشر في صدر الصفحة الأولى كمن يريد أن يحجب أشعة الشمس عن الناس بيده، وهكذا علق الخبر في أذهان الناس ومنهم القارئ العزيز محمد جمال.
اللافت في هذا الشأن أن ابنة نزار قباني الكبرى وكانت تتشح بالسواد قد دخلت علي في مكتبي في المركز الإسلامي قبيل الصلاة واستأذنتني أن تتقبل وأسرتها عزاء المعزين داخل قاعة الصلاة بالمسجد، فقلت لها إن هذا لا يمكن لعدة اعتبارات منها المحافظة على أمنكم وسلامتكم. وقلت لها إننا في المركز لا نملك إلا رجلي أمن اثنين فقط، ويصعب أمام مصلين بالألوف أن يحميكم رجلان، وإن أصررتم على تقبل العزاء داخل المصلى فهذا قد يتسبب في مشكلة خطيرة وأنا لن أتحمل أية مسؤولية. فردت علي بلغة غاضبة وقالت: «لو كان أبي حيا لهجاكم أيها المتشددون»، بطبيعة الحال لم يكن المجال مناسبا للجدل خاصة أنها مكلومة ومفجوعة بموت أبيها، وإلا لأخبرتها أن هؤلاء المتشددين الذين حشرتني معهم في صولة غضب وحزن يعتبرون ان المسجد المركزي مسجد ضرار فلا يجيزون الصلاة معنا ولا خلف أئمتنا. ولهذا طبقوا علينا مطلع الآية «إن الذين اتخذوا مسجدا ضرارا..» وآخر الآية طبقوها عليهم «..لمسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه..»، فأنشأوا مسجدهم على بعد أمتار من «مركز الضرار»!
كان الله في عون الذي ينهشه المتشددون من جهة، ويطعنه المتحررون من الجهة الأخرى، فهو منفلت في عين ومتشدد عند العين الأخرى، وأظن أن تهمة الانفلات والتشدد في آن واحد عبارة عن شهادة حسن سيرة وسلوك ووسطية.